سورة الأنبياء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)}
قوله تعالى: {قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ} فيه أربع مسائل:
الأولى: لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا: أأنت فعلت هذا بالآلهة؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين، تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال: بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء.
وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ}.
وقيل: أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل.
وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله، كما قال إبراهيم لأبيه: {يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42]- الآية- فقال إبراهيم: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم، ولهذا يجوز عند الامة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه، فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة، كما قال لقومه: {هذا رَبِّي} وهذه أختي و{إِنِّي سَقِيمٌ} و{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وقرأ ابن السميقع {بل فعله} بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم.
وقال الكسائي: الوقف عند قوله: {بَلْ فَعَلَهُ} أي فعله من فعله، ثم يبتدئ {كَبِيرُهُمْ هذا}.
وقيل: أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا، والمعنى: بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم.
الثانية: روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: لسارة أختي، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}»لفظ الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ووقع في الاسراء في صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال: وذكر قوله في الكوكب {هذا رَبِّي}. فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى تلك بقوله: «لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وواحدة في شأن سارة» الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 78] كذبة وهي داخلة في الكذب، لأنه- والله أعلم- كان حين قال ذلك في حال الطفولية، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه: تنبيها على أن ما يتغير لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في الأنعام مبينة والحمد لله.
الثالثة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: في هذا الحديث نكتة عظمي تقصم الظهر، وهي أنه عليه السلام قال: «لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}» ولم يعد قوله هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله، لم يجعلها في ذات الله، وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه، كما قال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} [الزمر: 3]. وهذا لو صدر منا لكان لله، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم.
الرابعة: قال علماؤنا: الكذب هو الاخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات، لكنها أثرت في الرتبة، وخفضت عن محمد المنزلة، واستحيا منها قائلها، على ما ورد في حديث الشفاعة، فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله، فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة، والقصة ولهذا جاء في حديث الشفاعة: «إنما اتخذت خليلا من وراء وراء» بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر، وكما قالواجاري بيت بيت. ووقع في بعض نسخ مسلم: «من وراء من وراء» بإعادة من، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم، لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف، لان ألفه للتأنيث، لأنهم قالوا في تصغيرها ورئية، قال الجوهري: وهي شاذة. فعلى هذا يصح الفتح فيهما مع وجود {من} فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


{فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)}
قوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ} أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته، المتفطن لصحة حجة خصمه. {فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس، من لا يرد عن رأسه الفأس. قوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ} أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} ف {- قالَ} قاطعا لما به يهذون، ومفحما لهم فيما يتقولون {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ} أي النتن لكم {وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}. وقيل، {نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ} أي طأطئوا رؤسهم خجلا من إبراهيم وفيه نظر لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف بل قال: {نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ} أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الامر وكذا قال ابن عباس قال: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.


{قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69)}
قوله تعالى: {قالُوا حَرِّقُوهُ} لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روى أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس، أي من باديتها، قاله ابن عمر ومجاهد وابن جريج. ويقال: اسمه هيزر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وقيل: بل قاله ملكهم نمرود. {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر: أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق: وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها، واشتعلت واشتدت، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال: إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق، إلا الثقلين ضجة واحدة: ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى: {إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه} فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خزان الماء- وهو في الهواء- فقالوا: يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال: لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار. فقال: لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: {اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل}.
وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: «أما إليك فلا». فقال جبريل: فاسأل ربك. فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي». فقال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ} قال بعض العلماء: جعل الله فيها بردا يرفع حرها، وحرا يرفع بردها، فصارت سلاما عليه. قال أبو العالية: ولو لم يقل {بَرْداً وَسَلاماً} لكان بردها أشد عليه من حرها، ولو لم يقل {عَلى إِبْراهِيمَ} لكان بردها باقيا على الأبد. وذكر بعض العلماء: أن الله تعالى أنزل زربية من الجنة فبسطها في الجحيم، وأنزل الله ملائكة: جبريل وميكائيل وملك البرد وملك السلامة.
وقال على وابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ظنت أنها تعني. قال السدي: وأمر الله كل عود من شجرة أن يرجع إلى شجره ويطرح ثمرته.
وقال كعب وقتادة: لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. فأقام في النار سبعة أيام لم يقدر أحد أن يقرب من النار، ثم جاءوا فإذا هو قائم يصلي.
وقال المنهال بن عمرو قال إبراهيم: «ما كنت أياما قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار».
وقال كعب وقتادة والزهري: ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه، فلذلك أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلها وسماها فويسقة.
وقال شعيب الحماني: ألقى إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة.
وقال ابن جريج: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست وعشرين سنة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني الماوردي، فالله أعلم.
وقال الكلبي: بردت نيران الأرض جميعا فما أنضجت كراعا، فرآه نمروذ من الصرح وهو جالس على السرير يؤنسه ملك الظل. فقال: نعم الرب ربك! لأقربن له أربعة آلاف بقرة وكف عنه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11